ولادته
الزمان ايام الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والبلاد خاضعة للانتداب الفرنسي، وتأميناً للمواد والحاجيات الضرورية التي عزّت كان يُعمل بنظام "الاعاشة" في الانحاء اللبنانية كافة.
والمكان زغرتا، حيث وُزّعت، شتاء 1940-1941، على الأهالي كمية غير كافية من "الاعاشة". وبقيت كمية مخزونة في اقبية سرايا زغرتا القديمة (التكميلية الثانية للبنات اليوم) فحاول بعض الأهالي سحب كمية اضافية لكن السلطات الرسمية المولجة تمنعت من اعطاء المزيد. وللحال قامت تظاهرة عفوية جابت الشارع الرئيسي لزغرتا آنذاك، اي "الساحة"، المجاور للسرايا، واطلقت صيحات الاحتجاج في ما توجه وفد من الاهلين الى طرابلس لوضع مرجعهم السياسي، سليمان فرنجية (الرئيس لاحقاً)، في صورة ما جرى. فتوجه هذا الأخير، على الفور، الى زغرتا، ومنها تواً الى السرايا، حيث فتح "على طريقته الخاصة" جميع الأبواب الموصدة بوجه الأهالي. ومن هناك اقفل عائداً الى "قهوة التل" حيث السرايا الجديدة اليوم. وفي طريقه اليها، صادف قرب بيت "آل روميّه" مقابل سينما "كونكورد"، امرأة على قارعة الطريق كانت تنتظره لتشكره، وكانت ارملة وأماً لسبعة اولاد. ركعت على الأرض وكشفت عن صدرها وطفقت تقرعها بيدها مرددة، عالياً، الدعاء التالي: "الله يبعتلك صبي". وكانت السيدة ايريس فرنجية، في واقع الأمر، على عتبة ولادة جديدة.
وما هي الا فترة وجيزة حتى استُجيب الدعاء، وفتح في 1 ايلول سنة 1941، طوني فرنجية عينيه على نور الحياة، في اهدن التي شهدت مصرعه الآثم، واحتضنت رفاته الغالية.
صغره
في صغره لم يكن طوني فرنجية مجتهداً. نائباً، ومن ثمّ وزيراً، تذكر في احاديثه الصحافية كيف كان والده، الرئيس فرنجية، يعلمه واخوته شارحاً لهم دروسهم. واطرف ما تبقيه الصحف لنا عن لسانه انه قضى سنة الحضانة في مدرسة الراهبات، في زغرتا، وكان للوصول اليها وهو في الرابعة، يركب، لوحده، حماراً، يربطه لدى وصوله، بشباك الصف، فينتظره بتعقل. ولم يطل الأمر، حتى صار التلميذ الصغير يهرب من المدرسة.
من مدرسة الراهبات، في زغرتا، الى معهد الفرير، في طرابلس، انسلخ طوني فرنجية عن طفولة كانت مرتمية، بالكامل، في الهواء الطلق، والعاب صبيان ذلك الوقت، ليدخل في جوّ دراسي اكثر صرامة، مبتعداً عن حياة الطبيعة التي لم يعد يتمتع بها الا صيفاً.
هوايات
في صيفيات صباه، روي عنه عشقه لركوب الخيل. فكنت تراه كل يوم ممتطياً حصانه يتجول في اهدن وضواحيها: في مناطق الوطى والمطل وعين الوحش، في جوعيت والحرش، في الدواليب وبقوفا....
وذات يوم تأخر كثيراً في العودة الى البيت.... وقد حلّ الليل. طلبه اهله فلم يجدوه. فتّش عنه الأصدقاء دون جدوى. واخيراً وجدوه في ملاعب "حمينا" وهو على صهوة جواده يقطع الملاعب ذهاباً واياباً... فقالوا له: لقد حلّ الليل ويجدر بك ان تعود الى البيت، ماذا تفعل هنا في هذه الساعة؟ اجاب: اني اتعلّم اصول وفنون الفروسية.... لقد قيل لي ان بطل لبنان يوسف بك كرم غالباً ما كان يأتي الى هنا، الى ملاعب "حمينا"، ليتعلم فنون الفروسية برفقة رجاله الأبطال....
وهنا يشار الى انه كان حصل، منذ السادسة، على بندقية خاصة؟ فأشرف والده على تدريبه، وعرف، مع رفاقه طرقات الصيد، باكراً.
نحو السياسة
في عام 1958، ترك "فرير" طرابلس الى "فرير" بيروت، مدة سنتين، عاد خلالها الى عادته القديمة في ترك الصف، ليس لمجرد اللهو، هذه المرة، بل اتماماً لبعض الواجبات، غير المدرسية، بالطبع التي راح يتنازل معها شيئاً فشيئاً، عن حياته الخاصة لصالح حياة سياسية بدأت تأخذ، في تلك الآونة، شكل مؤازرة لوالده، وهو ابن البيت السياسي العريق. سليل قبلان فرنجية الذي اوصلته الارادة الشعبية، عنوة، سنة 1929، وعلى شفار السيوف الفرنسية ، الى السدة النيابية. وحميد فرنجية الذي من النيابة سنة 1934 والوزارة بدءاً من سنة 1938 ومن مفاوضات الجلاء، والنقد الوطني، كاد يكون الرئيس الثاني للجمهورية بعد الرئيس بشارة الخوري منتخباً مرتين اولى سنة 1943 وثانية سنة 1950. وبانجذابه التدريجي الى اللعبة السياسية، سرعان ما اتضحت له استحالة اكمال دروسه في كلية ادارة الأعمال في الجامعة اليسوعية، فانصرف عن مقاعدها "مكرهاً" كما قال في احد الأحاديث الصحافية التي ادلى بها بعد انتخابه نائباً، من زغرتا (لشغور مركز والده) في 25 تشرين الأول عام 1970.
شروط السياسة
في هذا الحديث، بالذات، حدّد، اصغر نائب في المجلس، آنئذ، شروط السياسة بقوله انها ليست مهنة نتعلمها، او علماً نتلقاه. هي في الدم. والدعوة اليها تستلزمه التضحيات. الى ذلك فانها تتطلب ثلاثة:
1- الصراحة ( بمعنى ان يكون السياسي صريحاً وليس ان يقول كل ما يعرف).
2- الشجاعة.
3- برودة الأعصاب.
هذه الشروط، كانت نصب عينيه، منذ بداية تمرسه في العمل السياسي، سنة 1960، كما بيّناه قائماً، في البداية، بالمسؤوليات المتوجبة، في غياب والده الذي تضطره الظروف، احياناً الى ملازمة بيروت، والابتعاد عن قضايا وشواغل دائرته الانتخابية، ومستقطباً المراجعات، كافة، بوصول والده، الى السدة الرئاسية، وانشائه في طرابلس مكتباً لهذا الغرض عرف، صحافياً، باسمه (مكتب طوني).
-
في معترك السياسة:
مؤهلات قيادية
في النصف الثاني من الستينات برزت لدى طوني فرنجية مؤهلات قيادية مميزة لقربه المبكر من الهمّ السياسي ومعايشته الحارة لقضايا الناس وحاجات منطقته. فأدار مكتب والده، في طرابلس، ومكتبه، ومن ثمّ، متابعاً الاهتمامات العامة، وملاحقاً المراجعات والمطالب الخاصة. فأكسبته ممارسته خبرة تطبيقية خولته تكوين رصيد دفعه الى دائرة الضوء، من الباب الواسع.
بنشعي
ويوم طَرح فكرة اقامة مخيم للتدريب سنة 1969 في بنشعي (مركز قيادة نجله سليمان لاحقاً)، تردد بأن طوني فرنجية من اوائل الزعماء اللبنانيين الذين استوعبوا المشكلة اللبنانية بتطوراتها المستقبلية، وتوقعوا حجم وطبيعة الأخطار المحدقة بالوطن. والفكرة كانت تلتقي، اساساً مع مواقف والده انطلاقاً من المبادىء التالية:
1- الحفاظ على لبنان سيداً، حراً، مستقلاً.
2- الابتعاد عن اي تشنج طائفي.
3- الابتعاد عن تحقيق اي مكسب سياسي خاص.
النيابة
باعتلاء الرئيس سليمان فرنجية الكرسي الأولى شغر مركزه النيابي. فأعلن طوني فرنجية ترشيح نفسه للمقعد الشاغر بانتخاب والده رئيساً للبلاد. ووجه اليه، قبيل تسلمه مسؤولياته الدستورية، رسالة استأثرت بالاهتمام لتعبيرها عن مشاعر اللبنانيين وافكارهم نحو الرئيس الجديد واعتبرت بمثابة اطلالة سياسية اولى بعد اعلان ترشيحه.
" والدي.... سليمان فرنجية قبل ان تقسم اليمين الدستورية – غداً امام الله والوطن وامام ضميرك وقبل ان اسلك، انا، طريق السياسة، اسمح لي كولدك، ان اصارحك لآخر مرة قبل ان تصبح، انت اباً لجميع اللبنانيين.
انك تتسلم الحكم وسط انطلاقة من الفرح قلما شهدها لبنان من قبل، فرح عمّ مختلف مناطق لبنان، من صيدا حيث اضرم ابناؤها شواطئهم، الى عكار حيث كان الجبل شعلة من نار، الى الغربية التي انضمت الى الشرقية في فرحة عارمة، حتى شارع الحمراء حيث رقص الشباب طوال الليل.
كانت البهجة في كل مكان في لبنان، عفوية، جامعة.
على ان ما اريد ان اصارحك به، هو ان ذلك الحماس لم يكن موجهاً الى سليمان فرنجية – الرجل الذي لا يعرفه جيداً الا القليل من اللبنانيين.
فأنت لست ذلك الخطيب الذي يلهب مشاعر الجماهير.
وانت لم تتزلف ابداً في سبيل كسب تأييد الناس.
وانت لم تفصح ابداً – حتى الى اقرب المقربين اليك- بخفايا ما يدور في ذهنك... وبما يشغل بالك من مشاكل، بل كنت دائما، تفضل التأمل ومعالجتها بين الله وبينك.
انت لا تتمتع بثقافة جامعية تثير اعجاب الناس، وغريزتك في التفكير الصائب لا يعرفها سوى المقربين اليك.
فلماذا اذن، تلك البهجة التي نشهدها كل يوم، ذلك الأمل الذي ينبعث – لدى ظهورك – في قلوب المتواضعين من الشعب – كباراً وصغاراً – فيطلقون الدعاء والتمنيات عفوية، قائلين:
الله معك يا سليمان.
امل لم يعد بالامكان تخييبه، يضاعف المسؤولية الملقاة على عاتقك.
ارجو ان تكون بهجة اللبنانيين نابعة من شعورهم بأن يكون اهتمامك بالعائلة اللبنانية التي تسلم مقدراتها، شبيهاً باهتمامك بالعائلة الصغيرة التي انا بين افرادها.
مزيج من الحزم والطيبة:
حزم ازاء اية اخطاء تنال من المبادىء، وطيبة وتفهم الهفوات الناجمة عن الضعف البشري.
حزم وطيبة... ثمً شجاعة جعلت من حياتك المثل الذي نحتذي به.... وعطاء حتى التضحية في سبيل الغير.
ان عائلتك الصغيرة – بأفرادها التي كانت دائماً موضع اهتمامك – هي صورة مصغرة للعائلة اللبنانية التي اصبح مستقبله الآن بين يديك.
رأيتك – يوماً – تتألم عندما هاجرت احدى شقيقاتي من لبنان. وهذا ما سيجعلك تفكر حتماً بأن آلاف العائلات سيحز فيها الم مماثل كل سنة.
ولا شك في ان صورة اولئك الشباب الذين مزقوا جوازات سفرهم – يوم انتخابك – وعدلوا عن الهجرة، ستبقى راسخة في ذهنك.
واذا كان اخي الشاب يفتش – بقلق وحيرة – عن طريق المستقبل، فلا بد ان تفكر ملياً بأن ثلاثين الف شاب مثله يعانون، كل سنة، من نفس المشكلة، وهذا ما سيجعلك تتفهم ثورة هؤلاء الشباب على مجتمع لا يحاول تفهم مشاكلهم وايجاد الحلول لها.
عرفت المرض عن كثب، وكنت شاهداً على الكثير من الفقر ومما يجر من يأس. وهذا ما سيجعلك تعرف السبيل الى تخفيف الام الغير.
ان امنيتي الوحيدة هي ان تكون - بالنسبة للبنانيين – رب العائلة الذي عرفت، عندها سنفتح ابواب الأمل امام الجميع.
امل بأن يتساوى الجميع امام القانون.
امل بأن يعم النظام، في ظل ذلك القانون.
امل بأن يكون لبنان لجميع ابنائه دون تمييز للفقير قبل الغني للمحروم قبل المنعم عليه.
امل بأن تحظى الطبقات العاملة بظروف افضل للعمل وفرص اشرف للعيش. امل بأن تكون الادارة في خدمة المواطن مجندة للخدمة غير خاضعة لنفوذ او وساطات.
امل بأن تتاح للشعب بأسره فرص المشاركة في مسؤوليات الحكم والادارة والحمل، في اطار من الديموقراطية الحقيقية والحرية.
امل بأن يفسح المجال امام الشباب الكفؤ لوضع امكاناته في خدمة بلد يتوق الى خدمته.
عندئذ ينتاب اللبنانيين شعور بالفخر – كما اشعر انا – بأنهم ابناء لأب صالح عرف باستقامته، وترفعه، باندفاعه في العطاء وكرمه حتى اطلق عليه اللبناني الأول لقب "الفارس الأصيل"
"انطوان سليمان فرنجية".
نائب زغرتا
ما ان اعلن طوني فرنجية ترشيحه حتى التفت زغرتا حوله لتزكّي خلافته لوالده في المقعد الذي خلا بارتقائه سدة الرئاسة. واصدر زعماؤها، لهذه الغاية بياناً، هذا ما جاء فيه:
"بمناسبة اجراء الانتخابات النيابية الفرعية في قضاء زغرتا، يوم الأحد 8 تشرين الثاني القادم، نحن ممثلي عائلات دويهي وكرم ومعوض ومكاري – بحسب الترتيب الأبجدي – حفاظاً منا على وحدة الكلمة في منطقتنا العزيزة، وتأكيداً على ما تمّ فيها، والحمد لله، من تآلف للقلوب، نعلن ان مرشحنا جميعاً هو الأستاذ انطوان سليمان فرنجية.
وفيما نرجو ان يتم انتخابه بالتزكية، ودونما حاجة الى اجراء عمليات اقتراع، يسرنا ان نتوسم في المرشح الشاب كل الخير، لما عهدناه فيه من صفات انسانية اصيلة، واندفاع في سبيل المصلحة العامة، داعين له ولكم بالسعادة والتوفيق".
وحمل البيان تواقيع النائب الأب سمعان الدويهي، اسعد بك كرم، النائب رينيه معوض، والشيخ سيمون بولس.
-
النائب والمسؤولية
حدّد النائب طوني فرنجية في خلال ممارسته العمل البرلماني مسؤولية النيابة فقال "ان النيابة رسالة ومسؤولية، وبكلام آخر اعتبر النائب مواطناً عادياً انتدبه ناخبوه في مهمة معينة".
وقال " ان الذي يرضى عن نفسه كلياً يكون قد انتهى. فالرضى عن النفس له عندي تفسير واحد، وهو ان يواصل الانسان السعي والبحث عن الأفضل او عما يراه أفضل.
ورأى ان واجبات النائب في ان يكون "واعياً دوره الأساسي، تحت قبة البرلمان وان يكون مخلصاً واميناً في تمثيل الشعب الذي انتخبه بالسهر على مصالح هذا الشعب ومصلحة البلاد ثمّ مراقبة اعمال السلطة التنفيذية ومحاسبتها لا لمجرد المراقبة والمحاسبة بل من اجل تقويم كل اعوجاج وتلافي كل خطأ او خطر".
وفي معرض دفاعه عن النظام الديمقراطي قال النائب فرنجية: صحيح ان النظام الديمقراطي البرلماني الذي نعيش في ظله ليس كاملاً وليس خالياً من العيوب والشوائب الا اننا نجد بعد التأمل الهادىء ان نظامنا اقل سوءاً من غيره خصوصاً اذا كان القياس بلدنا نحن.
اما الذين يطالبون بتغيره دون ان يعرضوا على الشعب النظام البديل الأفضل الذي يقترحونه، فليتفضلوا ويعرضوا النظام الذي يريدونه وليثبتوه كبرنامج عمل سياسي لهم، عبر الانتخابات النيابية وليترشحوا للانتخابات التي هي اسهل طريق لكل تغيير هدفه الأصلح والأفضل. فاذا كان الشعب مقتنعاً بنظامهم فإنه سينتخبهم ويوصلهم الى المجلس النيابي بكل بساطة، وعندها يصبح بإمكانهم ان يغيروا ما يشاؤون. هذا اذا كانوا يثقون بالشعب واذا كانت دعوتهم تتناول رفاهية الشعب وخيره.
الوسط الجديد
وفي سياق الأعراف البرلمانية، سعى طوني فرنجية، الى تشكيل كتلة من داخل المجلس النيابي، وطموحه ان تكون هذه الكتلة في الموقع المتوازن بين الطروحات والاتجاهات المتناقضة، ولذا حملت اسم "تكتل الوسط الجديد" (1972) الذي ضمّ: طوني فرنجية، فؤاد غصن، حبيب كيروز، باخوس حكيم، بطرس حرب، عبد المولى امهز. ولاحظت الصحف حينها انه كان لهذا التكتل الذي وضع له طوني فرنجية خطوطه العريضة "وزناً سياسياً، وثقلاً في الاستشارات، وفي التوجه السياسي العام للبلاد".
-