أذاعت حكومة دمشق، بلاغاً عن تصديق اتفاقية التابلاين، بعد أن كانت موضع أخذ ورد ورفض في عهد الحكومة السابقة ، وبعد أن مرّ على توقيعها من قبل الحكومة اللبنانية ما يزيد على العام. وقد استقبلت الأوساط السياسية والعمالية تصديقها بشيء من حمّى القبول التي أملتها أزمة البطالة والضيق الاقتصادي، فرأت الأولى فيها منفذاً للتخفيف من البطالة دون ما جهد وعناء، والأخرى مورداً للرزق في وقت صعب فيه نوال الدرهم!
على أننا لن نتناول هنا أثر بدء أعمال التابلاين في حل الأزمة الاقتصادية والنقد النادر، ولا المسؤولية الواقعة على عاتق السلطة مما يجره هذا الاتفاق في حقل السياسة البترولية المعروفة من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية اليوم وفي المستقبل، ولا مسؤوليتها في ترك أمر حل أزمة البطالة على الشركات الأجنبية، والإعراض عن القيام بالمشاريع القومية لمكافحة البطالة!
إننا نتناول هنا الإفادة السياسية القومية التي يمكن جنيها عن طريق المساومة الديبلوماسية، وعن طريق استعمال هذا السلاح الإنترناسيوني الفعال المسمى امتيازات البترول. والجدير بالذكر أنّ اتفاقية التابلاين وضعت من قِبل الشركات الأميركية على بساط البحث في المملكة السعودية وفي دوائر الجمهوريتين السورية واللبنانية في وقت بلغ فيه الصراع في حقل القضية الفلسطينية الذروة وفترة الفصل. وأجدر بالذكر أنّ الجانب المفاوض مع ممثلي التابلاين حصر اهتمامه في ناحية الإفادة المادية لحل بعض الأزمات المالية الداخلية دون الاهتمام في نواحي الاتفاقية القومية والعسكرية والسياسية، وذهب المفاوضون تحت تأثير أزمة البطالة والضائقة الاقتصادية إلى حد إهمال كل النواحي الأخرى.
فاتفاقية التابلاين هذه، في الظروف الدولية المتأزمة بين الشرق والغرب، والمنذرة باصطدام مسلح عاجلاً أو آجلاً، وفي الحالات التي دللت فيها الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى على عطفها الفعلي المادي والمعنوي على إسرائيل، هذه الاتفاقية، على هذه الأسس، تشكل في أيدي الدول السورية والعربية سلاحاً إنترناسيونياً لو أحسن استعماله لحدَّ من فعالية التأييد الأميركاني الشامل لإسرائيل في كل الحقول.
هذا من حيث واقع اشتراك الدول السورية والعربية في المؤتمرات الدولية والمناورات العسكرية "لإنقاذ" فلسطين، منذ بدء الصراع في فلسطين وحتى الآن . وإذا ما قلنا بأنّ إنقاذ فلسطين لن يكون إلا على يد الأمة السورية وبخلاصها من الاختلاطات الغربية الخصوصية ، فينبغي أن ننظر في مدى تصديق اتفاقية التابلاين في الحقل الدولي العام ، وخصوصاً في قضية فلسطين .
صدّقت حكومة دمشق الاتفاقية مع الشركات الأميركانية البترولية في نفس الوقت الذي يتابع فيه مؤتمر لوزان أعماله بصدد اللاجئين وتدويل القدس وحدود "إسرائيل". وفي الفترة التي تجتاز فيها المفاوضات السورية-اليهودية مرحلة دقيقة بالنظر إلى تشبث اليهود باحتلال مناطق استراتيجية هامّة، يهيمن عليها الجيش السوري الآن، وفي الوقت الذي يؤدي تدخل ترومن إلى استقالة العضو الأميركي أثريدج من لجنة التوفيق الثلاثية. ومعروف أنّ تصلب اليهود تجاه الدول السورية والعربية، والدول الأخرى، مستند إلى تأييد حكومة الولايات المتحدة لها. ومعروف أنّ اتفاقية التابلاين تهم الحكومة الأميركانية. فيتضح من مجرّد تصديق اتفاقية التابلاين الأميركية أننا لم نستعمل هذا السلاح البترولي للحدّ من تأييد الولايات المتحدة لليهود في لوزان وفلسطين والأمم المتحدة، وتركنا الولايات المتحدة تستمر في تأييدها لليهود وجاريناها بتصديق اتفاقية حساسة هامّة تهمها جداً لمستقبل العمليات الحربية المقبلة.
هذا السلاح الثمين لم نستعمله، وأسلحة غيره كثيرة تبقى بدون استعمال!! وننتظر، مع كل ذلك، أن نربح الجولات المقبلة في حرب الموت والحياة مع الغزاة الصهيونيين.
لقد كان بإمكان المفاوض السوري ان يتحكم بمصير مفاوضات الهدنة السورية-اليهودية، وبمصير أعمال مؤتمر لوزان، وبطبيعة موقف أميركانية في الأمم المتحدة في جميع القضايا التي تهم الدول السورية في قضاياها الحيوية ، وخصوصاً في فلسطين.
وتجب الإشارة إلى أنّ هذا الموقف الحازم الذي انتظرناه من المفاوض السوري كان يجب دعمه موقف موحد الغاية والوسيلة في جميع الدول السورية، وأن يكون وراءه بالتالي تعاون، بين سوريا كلها من جهة والدول العربية، وثيق، يسد في وجه الديبلوماسية الأجنبية منافذ الضغط والتهويل والمساومة.
ويجب القول إنّ من جملة المؤثرات التي حَدَت بالمفاوض السوري إلى تصديق الاتفاقيـة، الموقف الذي وقفته مصر من النزاع القائم حول الاتفاقية. ويجب القول إنه لو لم تصدق حكومة دمشق الاتفاقية هذه لبادرت مصر للفور إلى عقدها مع التابلاين. إنّ مصلحة مصر، كما دلَّت التجارب، لا تقف دونها اعتبارات عربية أو سورية أو دولية!