لم تشكل اضافة اسم "لواء المردة"، مطلع عام 1976، الى قائمة التنظيمات العسكرية التي بلغ عددها، حينذاك، 29 تنظيماً، مفاجأة لأحد. فبوادر قيام تنظيم عسكري في زغرتا كانت قد بدأت ترتسم على ارض الواقع منذ عام 1968، كردّة فعل على الصعود الفلسطيني المسلّح في لبنان. هذا الصعود الذي تعزز بعد نكسة 1967 ليبلغ ذروته بعد احداث الأردن (1970)، واعلان "منظمة التحرير الفلسطينية" عن تمركزها في لبنان (1970).
-
جيش التحرير الزغرتاوي:
النواة العسكرية الأولى كانت قد تشكلت، صيف 1968، متخذةً شكل تدريبات عسكرية، على نطاق محدود، في بقعة قريبة من نبع جوعيت، في اهدن، لتنتقل، مع انتهاء فصل الصيف، الى بنشعي، حيث بدأت التدريبات الجدية لنحو عامين. والهدف كان الإستعداد للدفاع عن مصير وطن مهدد في كيانه، اولاً بسبب تأزّم علاقة سلطاته مع فصائل المقاومة التي تزايد انتشار عناصرها على ارضه، وتالياً بسبب انقسام ابنائه في الرأي، بين مؤيّدٍ لحرية العمل الفدائي، انطلاقاً من جنوب لبنان، كساحة عربية وحيدة متاحة لهذا العمل، وبين داعٍ الى تقييده وتنظيمه. وكان كل ذلك يتمّ على وقع الردود الإسرائيلية الإنتقامية (أعنفها الغارة على مطار بيروت الدولي في كانون الأول 1968).
أما اختيار بنشعي بالذات فلم يكن وليد الصدفة، ففي هذه القرية انتصر يوسف بك كرم على جيش المتصرّف الأول داود باشا.
"المخيم اللبناني للتدريب" كان اول اسم أُطلق على هذه المجموعة لكنه لم يَشعْ لأن اسماً آخر خطّه عنصر دبّت فيها الحماسة على آليته، اي "جيش التحرير الزغرتاوي" طغى عليه، وقدّر له ان يشيع، وتتداوله وسائل الإعلام. وكان القائد الأول لهذا التنظيم، والساعي الى انشائه، الوزير الشهيد طوني فرنجية يُشرف، وبإهتمام كبير، على هذا المخيّم، فيزوره، غير مرة في الأسبوع، لمواكبة التدريبات المتواصلة، وينام، حيناً فآخر، في خيمة تكاد لا تتّسع لسرير.
واول من تولّى التدريب في المخيّم كان الشهيد طنوس يمين (ابو واكيم). اما السيد ألبير يمّين فقد بذل ما في وسعه لتزويد المخيّم بإذاعة ميدانية عرفت شهرة بعدما استوحى منها الفنان بيار صادق فكرة لأحد اعماله الكاريكاتورية في جريدة "النهار".
ولم يسجّل، خلال هذه التدريبات، سوى وقوع حادثة واحدة وذلك عندما انطلقت خطأً بعض رصاصات قاتلة من رشاش جوزيف بطرس المصري وهو يقفز، فكان بذلك اول شهيد في قائمة شهداء المردة.
في موازاة ما كان يجري على ارض بنشعي كان الرئيس سليمان فرنجية يُطلق نداءه الشهير لعقد مؤتمر وطني في اهدن تداركاً للوضع. فالأفق اللبناني كان قد تلبّد بما يكفي من الغيوم المنذرة بعاصفة وشيكة الهبوب. ولم يكد شهر ايار 1969 ينتصف حتى كان فراغ الحكم قد امتد وكبر، والقلق قد اخذ يستبد باللبنانيين اكثر فأكثر. يومها قطع الرئيس فرنجية الصمت الذي كان يسود بمقال مدوّ نشرته "جريدة النهار" في 15 ايار على الصفحة الأولى، مكان الإفتتاحية، وجّه من خلاله نداءً حدّد فيه موقفه "من العمل الفدائي، ومن القضية الفلسطينية، ومن لبنان السيادة والضرورة". وقد عَنْونه بما اصبح شعاراً : "وطني دائماً على حق".
مع التوصل الى "اتفاقية القاهرة" ، عامذاك، تأجلت المشكلة الى العهد التالي، عهد الرئيس فرنجية. كما عادت وارجئت، مرة اخرى، بعد التوصل الى "اتفاقية ملكارت"، عام 1973، والنزاع الذي نشب في اعقاب حادثة فردان (ادّت الى اغتيال رجال الكوماندوس الإسرائيلي لثلاثة زعماء فلسطينيين في قلب العاصمة بيروت).
--------------------------------------------------------------------------------
تنظيم المردة:
وحين اندلعت نيران "حرب السنتين" كانت التسمية التي راجت، اي "جيش التحرير الزغرتاوي"، لا تزال ملتصقة بالنواة التأسيسية الى ان حتمت الضرورات الدفاعية خلق تنظيم اوسع نطاقاً، وارسخ هيكلية، فانقلبت التسمية الى "مردة" تيّمناً بما هو شائع عن الموارنة. فظهر "لواء المردة" بشكل تنظيم عسكري مؤلف من خمس كتائب: المردة، لبّيك يا لبنان، أرز لبنان، مجد لبنان والأرز الخالد، تُشرف عليه قيادة سياسية عليا متمثلة بالزعماء السياسيين الخمسة في زغرتا: طوني فرنجية، رينيه معوّض، الأب سمعان الدويهي، سليم بك كرم والشيخ سيمون بولس، وبالتعاون مع ممثلين امنيين عن العائلات السياسية. وقد صهر التنظيم المتجدد ضمن اطاره، بشكل اساسي، مقاتلي زغرتا، مدينة وقضاءً، فضلاً عن صهره سائر المنخرطين في صفوفه.
ومع ان البيان الذي صدر يوم الخميس في 22 كانون الثاني عام 1976، بعد المجابهة مع "لواء اليرموك" حمل توقيع "لواء المردة الزغرتاوي"، فإن بعض الصحف رأت من الضروري إقرانه بعبارة "التجمّع الزغرتاوي" امعاناً في التوضيح بأن صدوره كان عن تجمّع عائلات زغرتا. ومن ثمّ، شاعت التسمية الجديدة.
وتوالت دورات التدريب في منطقة البعول في اهدن بإشراف المهندس رينيه القارح والشهيد جورج خوّام، وحفلات تخريج المقاتلين في "الميدان"، بحضور زعماء زغرتا، وحشد من الأهالي. وكان المقاتل انطوان يوسف دحدح اوّل من وضع التسمية الجديدة: "لواء المردة" على آليته العسكرية فور علمه بالتوافق عليها.
ويعود الى الأب يوسف يمين الذي عرف بـ"ابي المردة" بعث كلمة "مردة" من رقادها التاريخي من خلال رجوعه الى كتاب "تاريخ الطائفة المارونية" للبطريرك اسطفان الدويهي الذي كان ابرز المؤرخين اللبنانيين اثارة لقضية المردة، حسب الإصطلاح المعمول به في لبنان، في القرن السابع عشر.
كما يعود اليه لفت الإنتباه الى علم المردة الذي كان مكوّناً من صليب تحته سيف، فجاء علم التنظيم، في بداية امره، محاكياً له: ابيض يتوسطه صليب مرسوم بالأحمر تعلوه ارزة لبنان، وفي الأسفل كلمة المردة، وفي الزاوية اليسرى: سيف. وذلك قبل ان يتمّ تعديله من خلال مزج العناصر المكونة له، والمشار اليها، آنفاً بعناصر اضافية بعضها مستوحى من العلم اللبناني كالأرزة، واللون الأحمر الذي يرمز الى دم الشهادة، وبعضها الآخر جديد: كالكحلي الدال على البحر الأبيض المتوسط، بحر فينيقيا، والأصفر المشير الى البرق. وقد قام برسم علم المردة، وفقاً للأفكار المطروحة، السيد جون باسيلي قبل ان يحوز على موافقة اولياء الشأن، وقبل ان يصبح رايةً تُرفع فوق المراكز العسكرية، وفي الساحات العامة، وشارة تعلّق على زنود المقاتلين، وتُلصق على السيارات والجدران.
وقد تصدّى "لواء المردة" ببسالة نادرة لكل الهجمات المتعاقبة التي تعرضت لها جبهة زغرتا- الزاوية الممتدة على طول 42 كيلومتراً، وبخاصة الهجمات التي وقعت في 9 ايلول 1975، وتلك التي تلتها في 21 كانون الثاني 1976، وقام بها "لواء اليرموك". كما كان ينتقل من الدفاع الى الهجوم حين كانت التطورات الميدانية تستوجب ذلك، لا سيّما بعد "معركة الكورة" من( 5 الى 12 تموز 1976).
سُجّل في تلك الآونة ظهور نشرتي "صوت المردة" (عن أسرة التحرير في اذاعة عمشيت التي كان يديرها الأستاذ رامز خازن) و"المارد الساخر".
بعد انتهاء "حرب السنتين" ساور المحاربين "المردة" اعتقاد بأن الإستراحة ستطول، خصوصاً بعد مصالحة القاعدة الشمالية اولاً، وهي مصالحة تجلّت على المستوى الشعبي، وتكرّست بعدما هرع أهالي طرابلس للتبرّع بدمائهم لأبناء زغرتا بعد الإنفجار الذي وقع في زغرتا في 1 ايار 1978، فمصالحة القمة الشمالية، من ثمّ، التي جمعت الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي في "الهيكلية" في الكورة بعد ايام قلائل. لكن سرعان ما اثبتت الأحداث ان الأسوأ كان في انتظارهم في اهدن، في 13 حزيران 1978.
وكان سبق وقوع مجزرة اهدن جملة تطورات ابرزها على المستوى العربي وصول الإنقسامات الى حدّها الأقصى بين الدول العربية بعد زيارة الرئيس السادات الى اسرائيل، وما نجم عنها من انعكاسات. اما على الصعيد اللبناني فسبقها ابتعاد تدريجي للرئيس فرنجية عن حلفاء الأمس في "الجبهة اللبنانية" بعدما لمس جنوحاً متزايداً للإنفتاح على اسرائيل، وانشاء "الجبهة الوطنية" في الشمال (1977) التي انتخبت نائب بشري السابق الشيخ قبلان عيسى الخوري رئيساً لها، والمرحوم الشيخ سيمون بولس اميناً عاماً. كما سبقها تمدّد كتائبي باتجاه الشمال، تعزز بالخدمات والتنظيم والسلاح، ادّى الى حصول احتكاكات في أماكن عدّة انتهت بوقوع اشتباكات في شكا بين عناصر الحزب، وابناء زغرتا، والى سقوط قتلى من الطرفين. الأجواء التي خلّفتها احداث شكا حاول البطريرك خريش تبريدها خلال اجتماع عقد في بكركي حضره المعنييون كافة، تداركاً لحصول الأسوأ، لكنه اخفق في احتواء النزاع المحتدم. وكان ما كان.
وفي ذلك النهار بالذات، اي في 13 حزيران 1978، كان مقرراً ان تنسحب قوات الإحتلال من الجنوب بعد 91 يوماً من تدخلها العسكري الدامي. وبدل ان تتجه الأنظار نحو الجنوب اللبناني، ونحو الدويلة التي سيعلن عن قيامها داخل الشريط الحدودي الرائد المنشق سعد حداد، اذا بها ترتدّ صوب اهدن كي تحوّل الإنتباه عن الشرخ الجغرافي والوطني المتمثل باقتطاع جزء (لن يعيده سوى التحرير عام 2000) من جنوب لبنان، وبقاعه الغربي في ما بعد بشرخ جغرافي ومسيحي، انطلاقاً من اهدن .غالياً كان الثمن. وقد سدده "المردة" من دماء الشهداء الذين سقطوا، غدراً، في اهدن او هم في طريقهم لنجدتها، وعلى رأسهم طوني فرنجية، وعقيلته فيرا، وابنتهما جيهان، بأمر من كتائب بشير الجميّل وبقيادة سمير جعجع.
"ما ان وقعت مأساة اهدن – بحسب تعبير جريدة "لوموند" الفرنسية- التي شاءها الكتائب لإعادة جرّ البلاد الى الحرب الأهلية ، ونبع ارتكابها من نزعة لبسط نفوذ هذا الحزب على المناطق المسيحية" حتى انتفض المردة، مرة اخرى، دفاعاً عما يؤمنون به من مبادىء: فلبنان العزّة والكرامة هو ايضاً لبنان الحرّ الموحد، لبنان المنتمي الى واقعه العربي، المتكامل مع سوريا، والرافض للخيار الإسرائيلي كأشد ما يكون الرفض. انتفضوا ذوداً عن عنفوان لم يفلح في كسره لا المماليك، حين سطوتهم، ولا العثمانيين، في ايام عزّهم.
وبالضراوة التي واجهوا بها الفلسطنيين، وكل من آزرهم، خلال "حرب السنتين"، جابه "المردة" تحقيق "مشروع الأمن الذاتي" الكتائبي وهو يتمدّد نحو "جبال الشمال". وقد مكّنتهم حكمة الرئيس فرنجية، وبعد نظره، من تخطي الأفخاخ التي نُصبت بعناية للإيقاع بينهم وبين ابناء بشري، من جهة اخرى، لتوجه انظارهم، وبنادقهم، صوب جحافل الحزب الرامي الى اخضاعهم لسيطرته، على غرار ما فعله مع سائر التنظيمات، من المدفون الى كفرشيما.
"الكتائب تحاول بتخطيط خارجي الحلول محلّ الدولة"، صرخ اعضاء القيادة السياسية العليا في زغرتا – الزاوية بفم واحد "واليد الملطخة بدم الشهداء الأبرياء لن تُصافح".
اما طوني فرنجية فكان صرّح الى "وكالة الأنباء الصحفية" ، قبيل استشهاده، "ان الأشخاص يزولون اما لبنان فباقٍ".
واضاف"نحن على استعداد للموت من اجل منع تقسيم لبنان".