المقاومة الإسلامية و الوطنية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المقاومة الإسلامية و الوطنية

منتدى المقاومة الإسلامية و الوطنية
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حدثني الكاهن الذي عرّفه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سرجون السوري
عضو جديد
عضو جديد



عدد الرسائل : 1
تاريخ التسجيل : 21/04/2008

حدثني الكاهن الذي عرّفه Empty
مُساهمةموضوع: حدثني الكاهن الذي عرّفه   حدثني الكاهن الذي عرّفه I_icon_minitimeالإثنين أبريل 21, 2008 1:53 pm

خطاب لم يلق . أعد ووزع مناشير في ليل 8 تموز . استجوبني الأمن العام بشأنه في اليوم التالي . ودخل السجن بسببه عشرات الشبان . ولكنه بعد ذلك ، صار يلقى علناً وينشر في الصحف .

تلقاني صبيان الحي بصراخ الهزء حين ترجلت ، وراح أحدهم يتباهى مذيعاً ان التاكسي اسمها فورد ، وأعلن ترب له أنه لونها رمادي ، فيما ضج جمهورهم بإخباري ، قبل أن أسألهم ، أن الكاهن ليس هناك . بل إن أحدهم تسلق السلم وفتح باب العلية من غير أن يطرقه ثم أطل من نافذتها ضاحكاً : "أرأيت ؟ إنه غير موجود" .



ذلك لأن شياطين الحي الصغار صاروا يعرفون عمن اسأل وأصبح يروقهم أني لا أجد من أفتش عنه . ولعلهم لمحوا من تذمري ومن خيبتي ما استثار فيهم السادية ، فجاء جذلهم على نسبة ما تجلى عليّ من زعل وضياع أمل .

فلقد كانت تلك المرة الرابعة التي قصدت فيها إلى رجل الدين لأستطلعه السر الرهيب .

وفي المرة الخامسة توجهت إليه ليلاً وعلى موعد ، فكان هناك . وحالاً أمحت من ذهني صورة رسمها خيالي ، فلم أجد نفسي أمام شيخ متداع أبيض اللحية ، ولم اسمع صوتاً متهدجاً ، ولا صرعتني مظاهر الوقار وكلمات أبوة ، وجلسنا تحز مسامعي توافه الأحاديث التي تعود الناس مبادلتها فور اجتماعهم . وطالت النزهة الكلامية على شاطئ الموضوع ، وبرح بي القعود على عتبة باب جئت لأفتحه ، فوثبت إلى الهدف مقاطعاً المحدثين قائلاً : حدثني يا محترم عن ليل 8 تموز 1949 .

وغاظني من رجل الدين أنه لم بتلبس حالاً بمظاهر التهيب ، بل بدأ الكلام ، بشيء من غير الاكتراث . ولكن صوته ولهجته وخشوعه وانفعاله بل وبطاءه ، كلها تماوجت مع وقائع ما كان يرويه ، فكأنه عبقري يعزف من موسيقاه قطعة رائعة على البيانو . فدغدغت أنامله أصابع العاج أولاً بعفوية لا تبالي ، وتوالت الألحان تتأرجح وتتسامى متجانسة متضاربة متوافقة حتى بلغت ذروة موسيقى من غير هذه الدنيا . فإذا نحن في العلية نكاد لا نسمع ما يقول ، ولا نرى البيانو ولا اللاعب ولا نعي الألحان . بل شعرنا أن جدران الغرفة انفتحت وارتفعت أرضاً بمن فيها ، فإذا نحن و "سعاده" في السجن ، في الكنيسة ، في المقبرة ، في حفرة من الأرض ، في مسمع الدنيا ، بين المغتربين ، في القصور ، في المحكمة العسكرية ، في المفوضيات ، في غصة القلوب ، في عبسة المغاور ، في لوعة المعاقل ، في رصانة التهذيب ، في هدوء البطولة ، في عزة الصراع ، بين يدي الكبر ، أمام الجلادين ، في طمأنينة المؤمن ، في كهف الغدر ، حراب تطارد المجرمين ، أعلام تصفق للجيوش ، زوبعة تمحق ، وصرخة تعكس موكب التاريخ .

وتناول رجل الدين ورقة من مطاوي جلبابه الأسود الفضفاض منتزعة من دفتر مدرسي ، وهم بقراءتها ، فاعترضته وقلت : اسمعني حديثك لا تقرئني أوراقك ، ولو كانت مذكرات .

فراح يتكلم :

حين فتحت الباب على صوت القرع الشديد في منتصف ذلك الليل ، وجدت نفسي أمام ضباط من الجيش يطلبون إلي أن أرتدي ملابسي وأحمل صليبي وعدة الكهنوت بسرعة . قلت : ما الخبر ؟ أجابوا : سنعدم أنطون سعاده هذه الليلة . ونريد أن تعرّفه وتقوم بمراسم الدين قبل إعدامه .

قلت : إن أمراً كهذا لا يسعني أن أفعله ، آتوني بإذن من سيادة المطران ، هكذا ينص قانونناً الكنائسي . قالوا : ليس لدينا من وقت ، إفعل هذا على مسؤوليتنا نحن . فاعتذرت من جديد . وراحوا يلحون عليّ مرددين أن خرق النظام الكنائسي هو أقل ضرراً من أن يرسل مسيحي إلى الموت غير متمم واجباته الدينية .

وأخيراً أذعنت بكثير من التردد والحيرة ، وركبت سيارتهم في طرقات تعج برجال الأمن من جنود وبوليس ودرك وأسلحة مشرعة ، وأطللنا على سجن الرمل ، فإذا هو منار من الداخل والخارج ، ونزلنا حيث كان ضباط آخرون بانتظارنا .

وأقبل عليّ مدير السجن يعرفني إلى نفسه ، وأخبرني أن هذا هو الإعدام الثالث عشر الذي مر به ، وأن الأمر بسيط فأجبته : "لقد مضى عليً ثلاث عشرة سنة في الثوب الكهنوتي، وهذا أول إعدام سأشهده" وكان الطبي الذي اشترك معنا في الحديث مثلي ، لم يشهد إعداماً في ما مضى .

وزاد مدير السجن فقال : إن هذا المحكوم الخائن انطون هو رجل خائن ، وكافر ملحد يبشر بالكفر والإلحاد ، إنه لن يأبه لك يا أبانا هذا الخائن الملحد الكافر .

ودخلنا حيث كان الزعيم ، في حبس من الغلو نعته أنه غرفة ، فوجدناه مفترشاً بساطاً من قذارة ورقع ، وكان هذا الفراش أقصر من قامته ، فجعل من جاكيته وصلة بين الفراش والحائط كي لا ترتطم به قدماه .

وكان نائماً نوماً طبيعياً ، ورأسه على ذراعه اليسرى التي جعل منها بديلاً عن مخدة لم تكن هناك .

وأيقظناه فنهض حالاً ، وبادرنا السلام ، وخصني بقوله : "أهلاً وسهلاً يا محترم" فأبلغناه أنه لم يصدر عنه عفو وأن الإعدام سينفذ به حالاً . فشكرنا باسماً رزيناً ، واستأذن بلبس جاكيته التي كانت مطوية تحت قدميه ، فأذنوا له ، فشكرهم من جديد ، ولبسها .

وخلوت به ، وسألته إن كان يود أن يقوم بواجباته الدينية ، فأجاب : لم لا ؟ وطلبت إليه أن يعترف ، فأجاب : ليس لي من خطيئة أرجو العفو من أجلها ، أنا لم أسرق ، لم أدجل ، لم أشهد بالزور ، لم أقتل ، لم أخدع ، لم أسبب تعاسة لأحد .

وبعد أن فرغت من المراسيم الدينية ، تركنا الغرفة فكبلوا يديه ، وخرجنا إلى مكتب السجن .

هناك طلب أن يرى زوجته وبناته ، فقيل له ذلك غير ممكن ، وقدموا له ترويقة فاعتذر شاكراً ، ولكنه قبل فنجان القهوة متناولاً إياه بيمناه وأسنده بيسراه ، وكانت تسمع للقيد رنات كلما ارتطم بالفنجان .

وكان الزعيم يبتسم صامتاً هادئاً مجيلاً عينيه من وجه إلى وجه وكأنه يودعنا مهدئاً من روعنا . هنا انفجرت أنا بالبكاء ، وبكي معي بعض الضباط ، بل أن أحدهم أجهش وانتحب .

وبعد أن شرب القهوة ، عاد يصر على لقاء زوجته وبناته ، فسمع الجواب السابق .

وسئل لمن يريد أن يترك الاربعماية ليرة ليرة التي وجدت معه ، فأجاب أنها وقطعة أرض في ضهور الشوير هي كل ما يملك ، وهو يوصي بها لزوجته وبناته بالتساوي .

وطلب مقابلة الصحافيين ، فأخبروه أن ذلك مستحيل ، فسألهم ورقة وقلماً ، فرفضوا ، فقال : إن لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ . فصرخ به أحد الضباط منذراً : "حذار أن تتهجم على أحد ، لئلا نمس كرامتك" فابتسم الزعيم من جديد وقال : أنت لا تقدر أن تمس كرامتي ، ما أعطي لأحد أن يهين سواه ، قد يهين المرء نفسه ، وأردف يكرر : "لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ ، وأن يسجلها التاريخ" .

فسكتنا جميعاً ، في صمت يلمس سكونه ويسمع دويه .

أصارحك أنني كنت في دوار من الخبل ، ومن المؤكد أنني لا أعي كل ما سمعت ، ولكن الراهن أني سمعته ، سمعته يقول : "أنا لا يهمني كيف أموت ، بل من أجل ماذا أموت . لا أعد السنين التي عشتها ، بل الاعمال التي نفذتها . هذه الليلة سيعدمونني ، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي ، كلنا نموت ، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة . يا خجل هذه الليلة من التاريخ ، من أحفادنا ، من مغتربينا ، ومن الأجانب ، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه ، يستسقي عروقنا من جديد" .
ومشينا إلى حيث انتظرنا السيارات ، والزعيم ماش بخطى هادئة قوية يبتسم ، إنه لم ينفعل ، كأن الإعدام شيء نفذ به مرات عديدة من قبل . إنه لم ينفجر حنقاً أو تشفياً . أنه لم يتبجح شأن من يستر الخوف.

في تلك اللحظة وددت لو خبأته بجبتي ، لو تمكنت من إخفائه في قلبي أو بين وريقات إنجيلي . إن عظامي لترتجف كلما ذكرته .

وحين خرجت إلى الباحة رأيت إلى يميني تابوتاً من خشب . من خشب الشوح لم يخف الليل بياضه. وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغير ملامحه ولا ابتسامته .

وقبل أن يرقى الجيب ، طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده . وللمرة الثالثة والأخيرة ، سمع الجواب نفسه . فتبينت ملامحه ، وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة .

وسارت الجيب بالزعيم يحف به الضباط وخلفه تابوته ، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة . ولعل مساً من البله اعتراني ، فبدا لي أن تنفيذ الإعدام سيؤجل ، أو أن عفواً سيصدر . سيطر عليّ هذا الوهم فخدرني ، حتى انحرفنا عن الطريق العامة إلى درب ضيقة بين كثبان . ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم .

وقفز من بينهم ، مكبلاً ، إلى عمود الموت المنتظر ، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه ، فسألهم أن يبقوه طليق النظر ، فقيل له : القانون .

أجاب إنني أحترم القانون .

وأركعوه وشدوا وثاقه إلى العمود . وكأن الحصى آلمته تحت ركبته فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى ، فأزالوها ، فقال لهم : " شكراً " ، " شكراً " ، رددها مرتين ، وقطع ثالثتها الرصاص .

فإذا بالزعيم وقد تدلى رأسه وتطايرت رئته ، وتناثرت ذراعه اليسرى ، فلم يعد يصل الكف بالكتف إلا جلدة تتهدل .

وكوموا الجثة في التابوت ، وتسارعت القافلة نحو المقبرة ، وهناك كادوا يدفنونها من غير صلاة لو لم يتعال صياحي . أخيراً قالوا لي : "صل ، إنما أسرع ، أسرع ، صل من قريب" .

ودخلنا الكنيسة ، ووضعنا التابوت على المذبح ، ورحت اصلي ، والدم يتقطر من شقوق الخشب ، ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطاً نقاطاً ، ليتجمع ويتجمع ثم يسيل تحت المذبح .

وخرجنا من المعبد ، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطل وأناجي الله ، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتهيل التراب ، وترتطم بالحصى وتهيل التراب" .

بذا حدثني الكاهن الذي عرّفه .

أقول لك أن تراب الدنيا لم يطمر تلك الحفرة .

أقول لك أن رنين الرفوش في ذلك الفجر سيبقى النفير الداوي ليقظة هذه الأمة . أقول لك أن منارة الحياة قد ارتفعت على فوهة العدم .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حدثني الكاهن الذي عرّفه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حدثني الكاهن الذي عرّفه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المقاومة الإسلامية و الوطنية :: أحزاب المقاومة الوطنية :: الحزب السوري القومي الإجتماعي :: مدرسة القوميين-
انتقل الى: