سيرة الشهيد السيد عباس الموسوي
لم يكن استشهاد الموسوي قتل فردٍ بفعل صدفة.. بل قتلٌ مقصودٌ من عقلٍ مدبِّر.. فلم يمت على فراش، بل بأكثر من ألف ضربة سيف!!
2) إستشهاد الموسوي حجّة ضدّ العدو والعالَم، وحجّة على من تراوده نفسه للقهقرى!!
الولادة .. الرؤيا
.. إنها الرؤيا تتحقق.. إنه الحلم يتجسد واقعاً حبيباً.. طفلاً يطرب الجميع لصوت صرخته الأولى.. أو لم تر والدته حلم قدومه الى هذا العالم على يدي أبي الفضل العبّاس الذي قدّمه لها عطيّة.. هدية أهل البيت (ع).. : هذا الغلام زكّيناه بأنفاسنا.. طهّرنا قلبه بطهر قلوبنا.. وكحّلنا عينيه بسنى النور الإلهي الذي تكحّلت به عيوننا.. وتضمّ الأم وهي على فراش الألم.. تضمّ وليدها.. تضمّ حلمها العذب الشهي.. تناغيه.. تهدهده.. وتناديه عبّاساً.
ويشيع خبر ولادة عبّاس.. تتناقله أفواه المستضعفين في تلك الضاحية المهملة.. المشلوحة جنوبي العاصمة المتلألئة بزينتها وزخرفها.. وترفها وبذخها..
في "الشياح".. رأى السيد عبّاس (رضوان الله عليه) أول شعاع في حياته المليئة بإشعاعات الجهاد الإيماني.. وبين الموجوعين من نير الحياة.. المسحوقين تحت سنابك الحاجة.. اللائذين بعتمات الليل تخفي هزالهم وعظم حاجتهم.. تخفي قهرهم وأنينهم وصدى نواح لياليهم..
وتتراكض النسوة الجارات.. وكلهنّ يباركن للوالدة وليدها، ويمددن يد المساعدة للأم الآتية من مقلع وجودها (النبي شيث) في بعلبك الى ضاحيةٍ صابرة ملّ الصبر من صبرها وما ملّت..
ويتسارع الرجال ذوو الأيدي المعروقة من حمل الضنى "من أجل الضنى" يباركون للأب الذي ظهرت الابتسامة جليّةً على شفتيه المرددتين آيات الشكر لله، يردّ على تهاني الوالجين الدار ليباركوا المولود..
وأيّ مولود كان ذاك الذي طرق باب الحياة عام 1952؟، ثم بدأ مسيرة حياة إيمانية جهادية امتدت سحابة عمره التي لم تمكث طويلاً في سماء هذا الكون الفاني، سحابة بلّلت رؤوس الفقراء بالحنان، وروت ظمأ نفوسهم بالمحبة، وسقت حقول أعمارهم بالأمل والأمنية بقيام دولة المستضعفين على اتساع هذا العالم الغارق حتى أذنيه في المادية، والمشيح بوجهه عن جراحاتهم حدّ اللؤم..
وكيف لا يكون هذا السيد، الحلم، بهذا المستوى من الرفعة الإنسانية من العطاء المتسامي.. وهو سليل الشجرة الهاشمية المباركة التي فيّأت بظلّها عالماً جاهلياً وأخذته بيد الرسالة والنبوّة الى منابع الإيمان والعرفان في الحياة..
كان السيد عباس (رض) هاشمياً صرفاً لجهة والده ووالدته.. لم يكن هاشمياً لأن أبويه هاشميان فقط، بل لأنه كان حرفاً بارزاً وكلمة خالدة جريئة في الحق في كتاب العترة الهاشمية الشريفة، كان هاشمياً بالفطرة.. تلك الفطرة التي ظهرت في مجمل ميوله واتجاهاته وتصرفاته، فهو منذ طفولته تميّز بالتودّد مع الناس، والتحسّس لمشاكل حياتهم، وبلسمة جراح المظلومين والمعذّبين، وكان جريئاً في مواقفه.. شجاعاً في إبداء رأيه، والى جانب ذلك كان يتمتع بصفة الريادة التي جعلته بارزاً بين رفاق طفولته ويفاعته.. فهو الى جانب محبته لهم وتوادده معهم، كان يمثل لهم بنفسه المثل الصالح.. يوجّههم.. يحاول إرشادهم -رغم صغر سنّه- الى ما فيه خيرهم.. خير دنياهم وآخرتهم.. كيف لا.. وهو الشاب المؤمن الملتزم الذي نهَل من معين القرآن، ورشف من تعاليم الرسالة، وأدمت نفسه وروحه جراح كربلاء، وجاورالمسجد، فكان خير جار، لا ينقطع عن زيارته في أوقات الصلاة، رافعاً صوته الجهوري الحبيب بالدعاء، مبتهلاً الى الله عز وجلّ أن يُعلي راية الإسلام ويحفظ قافلة الإيمان لتكون الخميرة الصالحة لدولة حقٍ وعدالة تقوم على كل أرض البشر الباحثين عن آفاق خيرٍ وسلام لمستقبل أبنائهم وأحفادهم..
لقد وعى السيد آلام أمّته وهمومها منذ حداثته، وأدرك بوعي الملتزم بمسؤوليته تجاه دينه.. تجاه أمّته: أنّ أهمّ أسباب هذه الآلام، وأكبر هذه المشاكل هو ذلك الكيان الغاصب الغريب الذي زرعه الاستكبار في رئة أرضنا.. في خاصرتها شوكة.. في عينها قذى..
لقد وعى بوعي المؤمن.. بوعي رجل الجهاد، أنّ أمور أمّته لن تستقيم طالما أنّ الكيان المسخ.. العضو الغريب.. مزروع في جسدها.. ومن نتائج زرع هذا العضو الغريب كان مأساة تغريب شعب.. برجاله ونسائه.. بشبابه وشيبه عن أرضه..
لقد عاش السيد عباس (رضوان الله عليه) مأساة الشعب الفلسطيني بشبابه.. بدقائق عمره.. بثواني تفكيره.. وهبها توقه، وشوقه، وعزمه، وزنده، وفكره، وساعده، والتحق بمقاتلي ثورته وهو لمّا يزل في العاشرة من عمره، وخضع لعدّة دورات تدريب عسكرية، منها دورة في أحد مخيمات ثورة في دمشق، وأصبحت الثورة بعد ذلك سطراً هاماً من سطور حياته، وفعلاً يومياً يظهر في أقواله وأفعاله، يتتبع أخبار فلسطين وأبنائها، يشاركهم همومهم وجهادهم ومعاناتهم، ويقرأ أخبارهم من خلال مداومته على الإطلاع على جريدة "الثورة"..
حتى جراح الجسد عاناها مع رفاق الثورة، إذ أنه أصيب بكسر في ساقه خلال إحدى الدورات، وأُدخل آنذاك الى مستشفى المقاصد الإسلامي غير آبه ولا مكترث، بل إنّ ذلك زاده التصاقاً بمعاني الفداء والتعالي فوق السدود والحدود مجيباً سائليه (عن مدى إصابته وإحساسه بها) بأنّ جرح الجسد ليس شيئاً أمام جرح الكرامة.. أمام جرح الدين والشرف.. الذي أصابنا به عدوٌّ لئيم واستكبار متعجرف وقح..
كان السيّد يعلم ويدرك حق الإدراك بأنه اختار الطريق الصعبة، بل الطريق الأصعب، وكان يملك من التصميم والإرداة، ومن حماسة الوعي الملتزم، ما حوّل الحالة الثورية التي كان يعيشها في أعماق أعماق ذاته المنتفضة الى حالة عقيدية إيمانية جهادية شمولية راسخة في كيانه، بل متآخية مع وجوده بشكلٍ لصيق، حتى بات تشكيلاً رائعاً يجسّد الإيمان الثائر والوعي الرافض لأي شكس من أشكال الذل والتبعية..
أولى خطواته المعرفية
لو حاولنا تعداد المحطات المضيئة في حياة السيد (رض)، لبدت لنا كسماءٍ رصّعتها الأنجم الزهر، ووشّحتها ألوان العطاء..
ومن المحطات البارزة والمضيئة في حياة شهيدنا لقاؤه بسماحة السيد موسى الصدر في بيت أحد الأصدقاء بمنطقة الأوزاعي (عام 1968)، وكان حديثٌ بينهما مدّ جسور تفاهم وتوادد، ولمس السيد الصدر يومها أنه أمام شخصية مميزة، ورجل لن يكون عادياً في مسيرة شعبه وحياة أمته، فرغب إليه بالالتحاق بالحوزة العلمية التي كان أنشأها في مدينة صور، والتي كانت مسمّاة آنذاك بـ"معهد الدراسات الإسلامية"، فاستجاب السيد عباس لطلب السيد الصدر، ثم تابع دراسته فيها الى ما بعد انتقالها الى المؤسسة في البرج الشمالي، فكان بذلك من الطلبة الذين دشّنوا بناء المؤسسة وكانو باكورة عطائها..
"تعمّم" السيد في السادسة عشرة من عمره، وازداد تعلقاً بحبّ السيد الصدر الذي بادله الحب والتقدير واجداً فيه الشاب الإنسان الواعي الظامئ والمتعطش (الى حد النهم) الى معرفة الدين وأحكامه، وكما في اللقاء، وكما رغب السيد الصدر إليه أن يلتحق بالحوزة في صور، فقد أشار عليه بعد تخرجه من المؤسسة أن يرتحل الى العراق ليتابع دراسته في كنف الشهيد السيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر.. وهكذا كان..
الرحيل الى النجف الأشرف
.. إنه الرحيل الأول للسيد الفتى.. الذي طلّق كل مباهج عمره النضر وكل لذائذ الحياة التي يسعى اليها رفاق عمره، لينطلق الى دنيوات يطغى عليها هاجس واحد: أن يوغل أكثر فأكثر في دروب الإيمان المعرفي الذي جعله هدف حياته وأفق عمره، ولقد درس في بادئ الأمر على أيدي بعض الأساتذة الذين ساعدوه وفقّهوه في مجالات دينية شتى.. وعند بلوغه مرحلة "الخارج" إنفرد بالدراسة على يدَي خدين روحه ومعقد أمله ومَثَله الأعلى الشهيد السيد آية الله محمد باقر الصدر (قده) الذي وجد فيه فرادةً في الشخصية وصفاءً في الروح وهمّة كبرى في التحصيل.. وجده شخصاً مميزاً، فاختصه بالتمييز، وقرّبه إليه فاتحاً له كل أبواب علمه ليغرف منه ما يشاء ومتى يشاء، ولم يبخل عليه بالجواب على مسألة حيّرت فكره أو استعصت على عقله، لقد فتح له خزائن علمه كما فتح له شغاف قلبه وكم من مرةٍ ردّد: "عبّاس فلذة من كبدي".. وكان السيد جديراً ولائقاً بهذا الاهتمام، هذا الاهتمام الذي أنبت فيه عطاءً غير محدود وتحدياً لكل مسألة شائكة تعترض مسيرته العلمية، فقد أنهى مراحل الدراسة في المقدمات والسطوح خلال فترة زمنية لا تتعدى الخمس سنوات، في حين يحتاج غيره لأكثر من ذلك.
إنها النفس الظمأى.. الراشفة لمعلَمٍ من أصفى مناهله.. لقد طاب الغرس والغراس.. فكان الجني مباركاً..
الإياب الأول الى لبنان (1973)
.. الحنين الى مراتع الصبا، والحنان الجارف الذي اختزنه صدر السيد والرقة والرأفة والشوق الى الأهل والأقارب، كلّ ذلك دفع بالسيد عباس ليعود الى لبنان في صيف 1973 م، بعد غياب دام أربع سنوات في رحاب النجف الأشرف وتحت عباءة علمائه ومجتهديه وتحت رعاية الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر..
عاد السيد ليتملى من قسمات وجوهٍ أحبّها، وليغرف من بركتها ورضاها، وليختزن من أدعيتها زاداً لمستقبل أراده زاخراً بالتضحية والعطاء الذي يكبر على حب الحياة ويسمو على التعلق بحطامها..
ولم يعد هذه المرة وحيداً الى العراق، بل رافقته توام شهادته، إبنة عمه "سهام الموسوي" التي أصبحت السيدة "أم ياسر" بعد زواجهما، وعمر السيد واحد وعشرون عاماً، ولها أربعة عشر ربيعاً من العمر..
العودة الى العراق (1973)
عاد السيد الى النجف.. الى معقد أمله ومعقل معرفته، والى جانبه قلبٌ يخفق إرضاءً وتقديراً، وعينٌ تسهر عليه، ويدٌ تقوم بترتيب أموره وتلبية حاجاته، وكان السيد يبادلها هذا الحنان بالحنو، وتلك الرأفة بالحنان، وينظر بعين التقدير إلى صبرها على القلّة والغربة.. لقد كان (رض) مثال الزهد في أمور الدينا.. متواضعاً مستقيماً، وكانت اخلاقه على قدرٍ من الرفعة والسمّو مع الأقربين والأبعدين، وكان ترفّعه عن سمّو في النفس والرغبة، لا عن تكبّر وصلَفٍ فارغ.. ولم يكن له أي مطمع في حطام الدنيا.. ويقول أحد معارفه والذي عايشه خلال إقامته في النجف الأشرف أنه كان يعتاش مع عائلته بمخصص متواضع طوال إقامته للدراسة هناك، وكان يعيش مع زوجته عيش المحتاج الصابر القانع برحمة الله.. وتذكر شقيقة السيد الشهيد انه احتاج يوماً لشراء بعض الكتب التي تعينه في دراسته، ولم يكن يملك ثمنها، فما كان من شريكة جهاده واستشهادة إلا ان باعت خاتم الزواج لتأمين شرائها.. إنه القلب النابض بالإيثار والتضحية، إنها المرأة التي تساعد على صنع رجل، تمهّد دربه بنـزع الشوك بيديها الطريتين، تمدّ عمرها جسراً يعبر عليه الرجل ليدقّ باب التاريخ، أو على الأقل ليلج عتبته بخطوات المؤمن الواثق.
وينساب صوت الذكريات على لسان شقيقته لتروي كيف انتظرته مع زوجته ذات غروب من شهر رمضان المبارك، ليأتي بطعام الإفطار، وكيف عاد فارغ اليدين ليحدّثهما عن صبر الزهراء وأحزان العقيلة (عليهما السلام) وعن التمسّك بأهداب الصب الجميل، إلى أن أذّن المؤذّن وحان وقت الإفطار، وعندما سألته أن يُحضر شيئاً من الطعام، إغرورقت عيناه، إخضلّتا بالدمع الطاهر متابعاً حديثه عن أهل البيت وصبرهم على مكاره هذه الدنيا الدنيّة، ولم يطل جوع هذه الجماعة البارّة القائمة الى عبادة ربّها، إذ دقّ الباب ودخل أحد العلماء من أصحاب السيد الشهيد حاملاً طعاماً كثيراً ورزقا وفيراً سكنت له القلوب الواجفة والبطون الشاكية من الطوى..
إنها فترة عصيبة عاشها السيد الشهيد مع رفيقة عمره، وشريكة سرّائه وضرّائه، ولكنها مليئة بالنوافذ النورانية، مليئة بالبحث عن الدروب الحقّة الى الله، وكل ما تبقّى قشور وزبَد.. يذهب جفاء ويبقى الجوهر..
لقد كان السيّد يرحل عمقاً في مسيرة حياته، ولم يكن يصرف وقته أو ساعات عمره في هدفٍ أو غاية سوى البحث عن العلم الخالص والمعرفة الخالية من شوائب المصلحة والغاية، ولقد كان اختياره للسيد االشهيد محمد باقر الصدر (وهو المعروف باستنارة فكره واتساع علمه)، كان هذا الاختيار لبنةً أساسية ودعامة هامة في بناء (أو على الأقل) في صقل الشخصية التي رسمها لنفسه وارتضاها لشخصه، ولقد قامت بين السيدين الطاهرين أواصر علاقة روحية سامية، إذ وجد فيه السيد عباس ضالته وأفق غايته، ووجد فيه الفكر النيّر والرؤية النورانية الصادقة والتطلّع الواعي والمتلمّس بصدق لواقع هذه الأمة.. ولبناء مستقبلها، وقد بادله الشهيد المفكر السيد الصدر إحساسه نحوه وتقديره لشخصه، فنشأت بينهما صلات روحية عميقة تمثّلت بلقاءاتهما المتواترة وبالمهمات ذات الأهمية التي كان الإمام الصدر يوكلها للسيد عباس (رضوان لله عليهما)..