هذه المرة الأولى التي يوافق فيها السيد حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله) على التحدث عن حياته، ويرضى أن لا يكون ملتحماً كلياً بحزبه وأفكاره، دوافعه ونضاله وسياسته في حديث موجه الى الجمهور.
"كاريزمي".. هذا الرجل لديه روح مجبولة بالفولاذ. يتكيف بسهولة مع تهديد دائم كان ليتلف أعصاب أي مواطن عادي، في كل لحظة، وهو يعرف هذا. "إسرائيل" يمكن أن تسعى الى تصفيته هو وخاصته، زوجته وأطفالهما، وإن اقتضى الأمر عبر قصف مسكنه أو عبر إمطاره بالصواريخ في طريق مهجور، كما في حالة سلفه السيد عباس الموسوي..
بمعنويات عالية تعامل السيد حسن نصر الله مع استشهاد ابنه البكر هادي، الذي استُشهد في اشتباك مع الإسرائيليين كوالد سعيد لنيل ابنه نعمة الشهادة التي تفتح للمؤمن أبواب الجنة.
رأينا هذا جيداً على شاشة التلفزة، لقد أراد تلقّي التهاني وليس التعازي، ولم يصدر عنه أي دلالة إعتيادية بالنسبة لمأتم.
وهذا موقف - وفقاً للمقربين منه - ليس فيه أي ادعاء. إنّ إيمان الرجل قوي بحيث أنه حين علم بفقدان أثر هادي لم يتذمر، مستقبلاً النبأ كما لو كان شأناً عاماً..
هادي، الذي كان يقاتل منذ فترة في صفوف "المقاومة الإسلامية"، كان معرّضاً لذلك. والده يعتقد أنه شرف كبير، على المستوى الإنساني، أن يسقط في مواجهة العدو في ساحة الشرف. ولكنه على الأخص سعيد لكون هادي نال بركة الشهادة. ولكن ينبغي أن لا نقع في اشتباه، إنه يفتقد الفتى "وإلاّ لما كنت أباً".. تنتابه آمال برؤيته وحسرات الحنان الأبوي، لكنه يستغرق في إيمانه ليمنّي نفسه بأنهما سوف يلتقيان يوماً عند الكبير المتعال وبفضله..
إنه دائماً في ظل التهديد الإسرائيلي الذي يأخذه، كهدف، تماماً كما الإحتلال الذي يعاني منه البلد والذي يقاتل ضده حزب الله، لذا فإنّ كل ما يتعلق بشخص الأمين العام يأخذ طابعاً إستثنائياً داخل الحزب.
إنبهار حقيقي بصورة الإمام موسى الصدر
الوالد عبد الكريم كان يبيع الفاكهة والخضار مع إخوته. ومع تحسّن وضعه قليلاً إستطاع أن يفتح متجر بقالة صغير في الحي. كان "حسن" يتردد إليه للمساعدة، وهناك كانت صورة للإمام موسى الصدر معلّقة على أحد الجدران. كان الصبي الصغير يجلس على كرسي قبالة الصورة ليتأملها، وكما يتذكر كان يحلّق في أحلام لا تنتهي. وكلما تأمل بالصورة كلما ازداد إعجابه بالإمام وتعلّقه به، وكان يحلم بأن يصبح يوماً مثله..
لم يكن "حسن" يشبه أولاد الحي الآخرين. كان هؤلاء الصبية يلعبون كرة القدم، يذهبون الى البحر أو النهر للسباحة، أما هو فكان يتردد الى المسجد في سن الفيل، برج حمود أو النبعة، لعدم وجود مسجد في الكرنتينا.
دعوة ونداء ديني خفي لا شيء ينبئ بها فهو لم يكن على احتكاك مع أي من العلماء، ولم تكن عائلته متدينة بشكل مميز، ولكن "حسن" اليافع كان متعلّقاً بالتدين، بحيث أنه لم يكن يكتفي بالمواظبة البسيطة على الشعائر، كالصلاة أو الصيام، بل كان يذهب أبعد من ذلك.
محيطه وجواره الممتزج بشدة مع الكرنتينا لم تتمكن منه. لم يكن منطوياً على نفسه، ولكنه كان مأخوذاً كلياً بحياته الداخلية، وبعرفانه، مع خلفية منطبعة بصورة الإمام الصدر..
وفي التاسعة من عمره نـزل "حسن" - كما يقال - الى البرج، ساحة الشهداء القديمة، مركز المدينة ليحصل على كتب لدى باعة الكتب المستعملة، الذين كانوا يفرشونها على الرصيف، ويحملونها معهم على عربات متجولة.
كان يقرأ كل ما كان يقع تحت يده من كتابات حول الإسلام. وعندما كان يجد صعوبة في فهم كتاب ما فإنه كان يضعه جانباً ليقرأه فيما بعد عندما يكبر..
أتم دراسته الإبتدائية في مدرسة حي "النجاح"، وكان في عداد آخر دفعة نالت الـ"سرتفيكا" (الشهادة التي أُلغيت سنة 1970). ثم درس في مدرسة سن الفيل الرسمية. ثم كان أن دفعت الحرب التي اندلعت سنة 1975 العائلة الى ترك الكرنتينا والعودة الى القرية، فأكمل حسن نصر الله دراسته الثانوية في مدرسة صور الرسمية.
عندما كان لا يزال في الكرنتينا لم يكن هو ولا أي فرد من عائلته منتمياً الى أي حزب، بالرغم من وجود عدة منظمات - بعضها فلسطيني - في تلك المنطقة. ولكن مع عودته الى "البازورية" إلتحق بصفوف "حركة أمل"، وكان خياراً طبيعياً جداً له لأنه كان متعلّقاً عاطفياً بالإمام موسى الصدر. كان عمره آنذاك 15 سنة، و"أمل" كان معروفة باسم "حركة المحرومين". ولكن خياره كان فاقعاً قليلاً في البازورية، القرية التي كان يسيطر عليها التقدميون، الماركسيون، وخاصة الحزب الشيوعي اللبناني.
على كل حال، فقد أصبح هو وأخوه حسين عضوين في قاعدة "أمل"، حيث أصبح بسرعة مندوب قريته، برغم صغر سنه.
في هذه الأثناء، وخلال بضعة أشهر، قرر أن يتوجه الى النجف الأشرف في العراق، المكان المقدس الشيعي، لينال دروساً في العلوم الإلهية القرآنية. لم يكن قد بلغ حينها السادسة عشرة، وكانت تنقصه الوسائل. إلتقى في مسجد صور بعالم هو السيد محمد الغروي، الذي كان يدرّس باسم الإمام موسى الصدر، فحدثه "حسن" عن رغبته بالذهاب الى الحوزة في النجف، القرية والمدرسة الدينية الشيعية، حيث يختار الطلبة أساتذتهم، ويَحيَون حياة جماعية. الغروي، الذي كانت تربطه علاقة صداقة مع السيد الكبير محمد باقر الصدر في العراق، أرسل مع "حسن" رسالة توصية الى هذا الأخير.
فجمع الشاب بعض الأغراض، القليل من المال، بمساعدة أصدقائه ووالده، وطار الى بغداد، ثم بالباص الى النجف. وعند وصوله لم يكن قد بقي معه قرش واحد. ولكن يوجد هناك - كما يقول - يد معينة لدعمك. والأهم أنّ الطالب يستطيع أن يتحمل حياة الكفاف في عوز كبير. الغذاء كان الخبز والماء، والفراش كان من الإسفنج.
لدى وصوله التقى اللبنانيين وسألهم عن إمكانية إيصال كتاب التوصية الى الإمام محمد باقر الصدر، الذي كان من أقطاب الحوزة، فأجابوه بأنّ السيد عباس الموسوي قادر على ذلك. لأول وهلة ظن حسن نصر الله أنّ الموسوي، الذي كان شديد السمرة، ظنه عراقياً فخاطبه بالعربية الفصحى، فوجده يجيبه: "لا تكلّف نفسك، أنا لبناني من "النبي شيث" في البقاع". وكانت هذه بداية علاقة وثيقة.
الموسوي كان لحسن نصر الله "صديقاً، أخاً، أستاذاً ورفيق درب"، وقد فقده بعد 16 سنة مع الإعتداء الإسرائيلي الذي أودى بحياة الأمين العام السابق لحزب الله. وبناءً لطلب السيد محمد باقر الصدر فالموسوي هو الذي توكّل بمهمة تربية وتعليم الوافد الجديد الى النجف. فعندما استقبله بعد قراءة كتاب التوصية من السيد محمد الغروي فإنّ العالِم الديني العراقي سأله: "هل معك مال؟"، أجابه: "ولا قرش واحد". فالتفت محمد باقر الصدر الى الموسوي وقال له: "أمّن له غرفة، كن مدرّسه وارعَه". وأعطى نصر الله نقوداً ليبتاع ثياباً وكتباً ومصروفاً شهرياً.
أولى الموسوي المهمة الموكلة إليه عنايته.. فوجد له غرفة في الحوزة قرب مسكنه، فقد كان السيد عباس متزوجاً وكان يحق للمتزوجين ببيت، بينما ينبغي للعزّاب الإكتفاء بغرفة قد "يقتسمونها" يتشارك فيها اثنان، أو حتى ثلاثة. كان لكل طالب الحق بمعونات متواضعة لا تتجاوز الخمسة دينارات شهرياً تُمنح لهم من قِبل العلماء الكبار المعتمَدين كمراجع، مثل الإمام الخوئي أو الإمام محمد باقر الصدر. إنّ تكفل طالب من قِبل شاب ليس بالمستغرب في الحوزة، التي تمتلك نظاماً مميزاً جداً.
تنقسم الدراسة فيها الى ثلاثة مستويات، فيوجد في البدء ما يشبه التعليم الإعدادي أو المدخل العام للتعليم الديني والعلمي.
ثم المرحلة المتوسطة، المسماة "مرحلة السطوح"، وأخيراً المرحلة الأخيرة العليا المسماة "البحث الخارج" لأنها تتطلب البحث من غير رجوع الى كتب معتمدة ومحددة وإنما الى آراء الفقهاء الأساتذة. وكما في بعض الأكاديميات الغربية فإنّ.. الطالب الذي نال درجة يستطيع بدوره أن ينقل معارفه المكتسبة الى الأصغر منه. وبناءً عليه، فإنّ عباس الموسوي الذي كان قد أنهى المرحلة التحضيرية وبدأ بالمرحلة المتوسطة إستطاع أن يستلم صفاً من المبتدئين، وفي عدادهم نصر الله.
الموسوي كان جاداً وصارماً. وبفضل تدريسه المتشدد إستطاع طلابه أن ينهوا خلال سنتين ما يعطى عادة خلال خمس سنوات في الحوزة. كانوا في الواقع يَمضون بسرعة، ويَحرمون أنفسهم من إجازات شهر رمضان وموسم الحج، وحتى من يومي العطلة الأسبوعية المعتمدة في المدرسة الدينية (الخميس والجمعة). كانوا يدرسون بلا توقف ولا انقطاع.
وفي سنة 1978 أنهى حسن نصر الله بنجاح هذه المرحلة الأولى. كان يريد قبل كل شيء أن لا يضيّع الأستاذ الذي أصبح صديقاً. ولكن في نفس هذه السنة بدأ النظام العراقي بالتضييق على الطلبة الدينيين، وأبعد عن البلاد مجموعة منهم من مختلف الجنسيات. وفوق ذلك فإنّ بغداد بدت منزعجة من الطلبة اللبنانيين لأنهم لم يقدموا جميعاً من الأجواء الدينية التقليدية المعروفة، ذلك أنّ أبناء المشايخ هم الذين كانوا يَفِدُون الى المدارس القرآنية ولكن أواسط السبعينات شهدت وصول شباب مثقفين غير منحدرين من عوائل متدينة. وبما أنّ الحرب كانت قد تأججت في لبنان فإنّ الشباب اللبنانيين أُخذوا كـ"كبش محرقة"، فكانوا يُتهمون تارة بالإنتماء الى "حركة أمل" وتارة الى "حزب الدعوة" أو الى "البعث السوري"، وكان الأمر يبلغ الى حد اتهامهم بكونهم دُسّوا هناك من قِبل المخابرات السورية.
إذاً، سنة 1978 فإنّ الطلبة اللبنانيين (الذين احتُجز بعضهم في السجن لأشهر عديدة) أُبعدوا من العراق، مثل أجانب آخرين، من قِبل السلطات.
ملاحَقاً من رجال صدام، رجع الى لبنان
في أحد الأيام، إقتحم رجال صدام الحوزة فعلياً، عندها كان السيد عباس الموسوي في لبنان، ولم يجد الجنود سوى عائلته، فأعلمه طلابه بأنه يجدر به عدم محاولة العودة الى العراق لأنه مطلوب هناك. وخلال فترة قليلة أُبعد الشباب أيضاً. وعندها ابتسم الحظ لحسن نصر الله، فقد صادف هجوم الشرطة مع كونه خارج حرم الحوزة، وعند عودته علم أنّ رفاقه اعتقلوا فغادر مباشرة منطقة النجف، ولم يكن أمر اعتقاله قد صدر بعد في المناطق الأخرى، ولم يكن اسمه قد أُعطي على الحدود، فاستطاع أن يرجع الى لبنان بهدوء، ولكنه قبل كل شيء كان يريد أن يكمل دراسته الدينية.
وقد تحقق له ما أراد عندما فتح الموسوي مع مجموعة من المدرسين مدرسة دينية في بعلبك، وهي ما زالت حتى الآن. كان نصر الله يدرس فيها ويدرّس في نفس الوقت. ثم عاود نضاله في صفوف أمل التي انتخبته مندوبها السياسي في البقاع سنة 1982. وبهذا العنوان أصبح عضواً في المكتب السياسي المركزي. وفي نفس هذه السنة أنهى دراسة المرحلة الثانية، أي المتوسطة.
عام 1982 تم الإجتياح الإسرائيلي الكبير، وأصبحت هذه السنة منعطفاً أساسياً في وجود حسن نصر الله، كما لزملائه. وباحتلال الإسرائيليين لبيروت، تشكّلت "جبهة الإنقاذ الوطني" التي رغب رئيس أمل نبيه بري أن يشارك فيها. ولكن الأصوليين المتدينين في الحركة عارضوا هذا الأمر، وتفاقم النزاع، وانشقت مجموعة المتدينين. وكان أمراً مقبولاً نظراً الى أنه في السابق كان يوجد العديد من الخلافات التي جعلتها تأخذ موقفاً مقابلاً للأستاذ بري بسبب الإختلاف في تفسير الإرشاد الذي خلّفه الإمام موسى الصدر.
لكن هذه الأحداث لم تبدُ في ذلك الوقت خطيرة بشكل كافٍ لتنفيذ انشقاق، ولكن عندما رأى الشباب المؤمنون أنّ رئيس الحركة يريد الإنضمام الى "جبهة الإنقاذ الوطني" برئاسة الياس سركيس، وليس فقط الى جانب وليد جنبلاط ورشيد كرامي وإنما أيضاً مع بشير الجميل، إعتبروا أنه يوجد انحراف خطير. في الواقع هم يرَون أنّ "الجبهة" تهدف خاصة الى إيصال بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي يرفضونه كلياً، فبنظرهم أنّ رئيس "القوات اللبنانية" يرمز الى التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولم يكن الصلح معه وارداً، ولا مد اليد إليه.
فتركوا عندها "أمل" ليؤسسوا مع عناصر أخرى من خارج الحركة "حزب الله". وهناك بدأ الحركيون القدامى بإجراء اتصالاتهم مع كوادر الجمعيات الخيرية أو الثقافية الناشطة عموماً في لجان الأحياء وتجمعات المساجد. وقد قَدِم بعضهم من "حزب الدعوة الإسلامية"، هذا التنظيم السري كان قد حلّ نفسه قبل تشكيل الحزب، الذي انضمت إليه أيضاً المقامات الدينية المستقلة. وكان شعاره مقاومة الإحتلال الإسرائيلي.
الأمر اللافت هو أنه عندما ترك حسن نصر الله "أمل" لم يتبعه أخوه الشاب "حسين"، الذي ما زال حتى اليوم منتمياً الى الحركة، وقد شغل في وقت من الأوقات مسؤولية الحركة في قطاع "الشياح"، ولكن يبدو أنّ مشكلات صحية قد أدت به الى ترك هذه المسؤولية.
حسن نصر الله هو الابن البكر لعائلة من تسعة أولاد من الصبيان والبنات، حيث يليه حسين، ثم زينب (وهي متزوجة)، ثم فاطمة التي تقيم في البيت مع أهلها، ثم محمد الذي يمارس مهنة أخرى، ثم جعفر الموظف رسمياً، ثم وفق ترتيب الأعمار: زكية، أمينة وسعاد، والثلاثة متزوجات..
في البدء، لم يكن أهل البيت متدينين جداً، كما أشرنا، "ولكن مع الوقت تحسن الوضع" يقول السيد.
جميع البنات يجاهدن في أنشطة لحزب الله. وبالنسبة للصبيان ففي البدء كانوا جميعاً في "أمل" ولكن لم يبقَ الآن سوى حسين. محمد لا يمارس السياسة ولكنه يحترم الحزب دون أن يكون عضواً فيه. أما جعفر فيبيّن حسن نصر الله أنه لا يعرف توجهاته الحالية، لأنه لم يتناقش معه في الفترة الأخيرة.
لم يكن الإمام موسى الصدر بالنسبة للشباب الذين آمنوا به مؤسساً لـ"أمل" فقط، ولكن أيضاً وبشكل أو بآخر "حزب الله"، إنه مرشد الجميع، الجميع يعتبرون أنفسهم أولاده. لكن بعد اختفائه ظهر تباين في طريقة تطبيق تعاليمه.
حزب الله، اليوم، هو على طريق التطور، كون إرادته هي السير مع العصر، وخاصة على المستوى الشيعي.
ودائماً بحسب نصر الله: فلا ينبغي التفكير أنّ شخصاً واحداً، مهما كان جليلاً، هو قادر على احتكار الفكر والمعرفة الدينية والعلم السياسي.