المؤلف: جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق.
يستكمل كارتر في هذه الحلقة رسم لوحة الشرق الأوسط التي يمكن أن تتهيأ لصنع السلام فيه. وبعد أن قدم بتاريخ وصفات اللاعبين الأساسيين – الفلسطينيين والإسرائيليين – بدأ يتناول تقييما تفصيليا لجيران اللاعبين. وبدأ هنا بسوريا بحديث مفصل عن الرئيس الراحل حافظ الأسد. ونطالع هنا – ربما للمرة الأولى – وصفا دقيقا وتفصيليا لفكر الرئيس الأسد. ويقدمه كارتر على أنه زعيم زكي ومدافع مخلص عن حقوق العرب والفلسطينيين. ويسرد حججه وأقواله بالتفصيل ، والتي يرى كارتر في كثير منها وجاهة وقوة. ويتكلم أيضا عن قسوته مع خصومه وعن استعداده للذهاب لأقصى مدى في سبيل ما يعتقده. إنها شهادة مهمة لفهم مفاتيح السياسة السورية.
عرض :
باستثناء الاتصالات المصرية القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين .. فإن الدول العربية ليس لها أي دور إيجابى بناء في التمهيد للسلام ، لكن علينا أن نتذكر أن نفوذهم التراكمى سيكون حيوياً وضرورياً في المساعدة على إتمام إتفاق مقبول .. وطمأنة الإسرائيليين المتشككين في أن مثل هذا السلام سيكون دائما ويمكن الإعتماد عليه ، لهذا .. فإنه سيكون من المفيد أن نلخص ونزن الأدوار التاريخية للقادة في كل من سوريا والأردن ومصر ولبنان والمملكة العربية السعودية .. بخصوص المساهمات التي قد يقدمونها في المستقبل من أجل الوصول إلى حل محتمل، لقد زرت كل هذه الدول وإجتمعت مع قادتها مرات عديدة على قدر استطاعتي.. ورتبت لعقد إجتماعات إضافية معهم في الولايات المتحدة وغيرها من الدول .
1- سوريا
لقد خرجت إسرائيل من المناطق التي تحكمت فيها كل من مصر ولبنان .. ولكنها لا تزال تحتل مناطق من سوريا تسمى مرتفعات الجولان ، ولعله من المثير أن نلاحظ أننا عند إجراء بحث عن " مرتفعات الجولان" في محرك البحث جوجل على الإنترنت.. فإن واحدة من أول الردود التي سنحصل عليها .. هو دعوة السائحين لزيارة المستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون هناك ، قمت بزيارة هذه الهضبة المرتفعة – لأول مرة – في عام 1973 .. وعدت إلى هذه المنطقة عدة مرات خلال زيارتى لإسرائيل والأردن وسوريا ، تمكنت إسرائيل من الإستيلاء على هذه المرتفعات من سوريا خلال حرب الأيام الستة في عام 1967 ، وفى عام 1981 شرعت قانوناً تسمح فيه إسرائيل لنفسها – ضمنيا – بمد سلطتها الدائمة على هذه المنطقة ، وقد تسبب هذا في حساسية لا نهاية لها من جانب دمشق وجعل القادة السوريين في مقدمة العرب يرفضون أية تسوية سلمية مع إسرائيل على أية قضية أخرى.
قمت بدعوة القائد السورى لزيارتي في واشنطون ، لكنه رفض .. وبالرغم من هذا الرفض الحاسم المؤدب .. فقد درست كل ما أستطيع تعلمه عنه وعن سوريا ... قبل أن أقابله.
عندما توليت الرئاسة .. كان أحد أهدافى الرئيسية هو إقناع الرئيس السورى "حافظ الأسد" .. بتغيير سياسته السلبية والتعاون معى في جهود شاملة من أجل السلام ، ولم يكن هناك الكثير الذى نعرفه عن حياته الشخصية او العائلية ، لكن وزير الخارجية السابق "هنرى كيسنجر" .. وآخرين ممن عرفوا "الأسد" ... وصفوه بأنه شديد الذكاء وبليغ وصريح حتى خلال مناقشته لأشد القضايا حساسية ، فقمت بدعوة القائد السورى لزيارتي في واشنطون ، لكنه رفض .. معبراً عن رفضه التام لزيارة الولايات المتحدة في أى وقت ، بالرغم من هذا الرفض الحاسم المؤدب .. فقد درست كل ما أستطيع تعلمه عنه وعن سوريا ... قبل أن أقابله.
إن فشل الدول العربية في تدمير دولة إسرائيل الوليدة في عام 1949..فتح المجال لموجة من النقد الذاتي بين العرب .. وداخل كل دولة على حدة ، وفى عام 1958 – خلال بحثهم عن طريقة جديدة – قامت وحدة بين سوريا ومصر تحت إسم ما عرف بالجمهورية العربية المتحدة ، وبعدها بثلاث سنوات ونصف السنة أصبح من الواضح أن مصر بقيادة "جمال عبدالناصر" .. هى المسيطرة على الاتحاد الجديد ، وهو ما أجبر القادة السوريين غير الراضين عن هذا الوضع إلى فك الوحدة ، "حافظ الأسد" – وزير الدفاع في ذلك الوقت – وغيره من القادة العسكريين السوريين .. لاموا القيادة السياسية على الهزيمة النكراء التي تعرضوا لها عام 1967 ، وكنتيجة لهذا رفض "الأسد" طاعة أوامر رئيس الجمهورية عام 1970 .. بمساعدة المقاتلين الفلسطينيين الذين يحاربون في الأردن ضد الملك "حسين" ، وعندما تم الحكم عليه بسبب هذه الفعلة .. استولى على السلطة من خلال إنقلاب غير دموى.
كان "الأسد" مشهوراً بالقسوة في معاملته لأى شخص يقاوم سلطانه ، وكان شديد الحماس في حمايته للمنطقة من التدخل الخارجى ، كما أنه كان يعمل على توسيع دور سوريا كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط ، لقد كان مستعداً للدخول في مواجهات سياسية وعسكرية خطيرة .. إذا ما تطلب الثبات على مبادئه..
كان أول لقاء بيننا في سويسرا في يونيو من عام 1977 .. ووجدت "الأسد" كما وصفوه لي ، فلقد كان أكثر القادة بلاغة في وصف دقائق المعتقدات العربية بخصوص إسرائيل وإمكانية حدوث السلام، في البداية .. بدا وكأنه متغطرس نوعاً ما .. ولكنه كان مهتما بجهودي في تنظيم مفاوضات للسلام ، لقد كان مصرا على أن محادثات السلام يجب أن تتوافق مع قراري الأمم المتحدة رقم 242 ورقم 338 ، وأنها يجب أن تضم السوفيت ، واعترض بشدة على المناقشات الثنائية بين إسرائيل وأى دولة عربية .. وإستبعاد الإتحاد السوفيتى ، لقد كانت سوريا تعتمد بشدة على المساعدات السوفيتية .. لكن "الأسد" في الحقيقة لم يرد أن يكون دمية تحركها الخيوط ، وكنت آمل في أنه ربما أظهر إستقلاله .. بالعمل معى للتغلب على بعض العقبات التي واجهناها ، في ذلك الوقت .. كانت خططي الخاصة بمحادثات السلام مبنية على اساس قرارات الأمم المتحدى التي أكد هو أيضا عليها.
كان "الأسد" مقتنعاً بأن الإسرائيليين لا يريدون السلام .. .. وإنهم سيحاولون - دائما- أن يحبطوا المفاوضات ويفشلوها .. بينما يتوسعون جغرافيا
من أجل فهم أفضل للمواقف التي مازالت سائدة في العالم العربى – بما فيهم وجهات النظر الأكثر إعتدالاً في كل من مصر والأردن ولبنان – فإنه من المفيد أن نلخص الآراء الحماسية للرئيس "حافظ الأسد" .. والتى نادراً ما سُمعت في الجزء الغربى من العالم ، حتى أنني قمت أنا و"روزالين" والمترجمون الرسميون..بالاحتفاظ ببعض الملاحظات الدقيقة لما دار بيننا من نقاش.
إن الأسد قد أكد لى .. أنه تم السماح لإسرائيل بدخول الأمم المتحدة في عام 1949 من خلال الفقرة الشرطية الواضحة التي تنص على أن اللاجئين الفلسطينيين سوف يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم . أو تعويضهم بالكامل عن كل ما فقدوه من ممتلكات ، وقبيل عام 1967 – طبقا لما قاله – فإن إسرائيل كانت تجبر أعداداً إضافية من سكانها العرب على مغادرة الأجزاء الصغيرة المتبقية من أراضيهم ؟.. في مخالفة صريحة لإتفاقيات الأمم المتحدة التي أقسم الإسرائيليون على احترامها ، كذلك فإنه ادعى أن إسرائيل بدأت حرب عام 1967 لكي تستولى على المزيد من الأراضى العربية.
وإستشهد بكلمة أحد قادة إسرائيل الكبار .. الذى أعلن أنها ليست إلا خطوة وسيطة تجاه الوصول إلى "إسرائيل العظمى" ، وأن كل أفعالهم منذ ذلك الوقت - طبقا لأقوال "حافظ الأسد" - أظهرت أطماعهم التوسعية ، لقد كان "الأسد" مقتنعاً بأن الإسرائيليين لا يريدون السلام .. .. وإنهم سيحاولون - دائما- أن يحبطوا المفاوضات ويفشلوها .. بينما يتوسعون جغرافيا ، ثم أكد "الأسد" .. أنه من حيث المبدأ – لا يحق لأى قائد عربي أن يوافق على أى توسعات في حدود إسرائيل القانونية .. مهما كانت شدة رغبته في السلام.
لقد حاولت أن أقنع "الأسد" بأن الإسرائيليين مستعدون للسلام .. إذا كان القادة العرب موافقين على التفاوض معهم مباشرة ونوايا خالصة ، ووصفت له إلتزام إسرائيل الكامل بأمن دولتهم الصغيرة .. وحاجتهم لأن يكونوا مقبولين ككيان دائم في منطقة الشرق الأوسط ، لكن "الأسد" أشار إلى أن الضفة الغربية تشكل 22% فقط من المساحة التي كانت موضوعة تحت الإنتداب الإنجليزى (حوالى ربع ما استولى عليه الإسرائيليون).. وأدانهم بسبب توسعهم في مرتفعات الجولان السورية .. قائلاً : -إنه من غير المقبول أن تصر على تأمين حدودك من خلال الإستيلاء على أراضي الآخرين ، لماذا يجب أن تكون حدودهم الآمنة قريبا من دمشق وبعيداً عن تل أبيب؟".
ثم أضاف .. وكأنه يفكر بصوت مرتفع : "إننا دائما ما نتحدث عن الدين .. لو أنهم أخذوا القدس منا .. فإننا - كمسلمين – سنكون بلا أرواح ،إن ما لا أستطيع فهمه .. هو أن يُطلب منا التفاوض (بشدة) للعودة إلى حدود 1967 .. وأن نقوم بإستبعاد القدس فقط".
عند هذا سألته :
- "هل الأمور تسبح أكثر سهولة .. لو أننا إستبعدنا أشياء أخرى؟".
فضحك "الأسد" هو وكل المستشارين الجالسين حول طاولة المفاوضات وقال :
- "إذا أصر الإسرائيليون على التمسك بالقدس الشرقية فإن هذه يظهر عدم رغبتهم في السلام .. لأننا مرتبطون بها تماما مثلهم".
عندها أجبته بأن المسيحيين – وأنا من بينهم – متعلقون بهذه المدينة أيضاً .. وأننا نأمل أن يسمح لكل المؤمنين بدخولها وزيارة الأماكن المقدسة وحرية العبادة .. دون قيد أو شرط.